الدكتور عبد الرحمن رمضان الأزهري يكتب : الفتح الأعظم
لقد كان فتح مكة أعظم الفتوحات عبر التاريخ بما حمله في طياته من مكارم الأخلاق، التي ضرب النبي والمسلمون فيها أروع الأمثلة، ولو ذهبنا نقارن بين فتح مكة وبين غيره من فتوحات الملوك عبر التاريخ لم نجد وجها للمقارنة، فحينما سقطت غرناطة قام الأسبان بطرد المسلمين من الأندلس وقتلوا الآلاف في رحلة التهجير القسري تلك، وحرقوا آلاف الكتب، وحينما دخل الصليبيون بيت المقدس قتلوا كل من وجدوه بها، وحينما دخل التتار بغداد قتلوا مليون إنسان، ولما تمكنت دول المحور حصدوا أرواح الملايين، ولما تمكن الحلفاء ردوا بالمثل، وأسفرت الحروب العالمية عن 50 مليون إنسان.
أما فتح مكة فقد كان أخلاقا ورحمة وعفوا، وكيف لا يكون كذلك، وقد عزل النبي من قال في نشوة الظفر: “اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة”، وغير له المفهوم الصحيح للحرب في الإسلام، فنحن لا نحارب للقتل لكن نحارب لنرفع راية الحق والعدل، ((اليوم يوم المرحمة اليوم تعظم الحرمة)).
ومن أعظم الدروس التي نتعلمها من هذا الفتح:
1- وجوب نصرة المظلوم :
لما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة – حلفاء المسلمين – ، وأعملوا فيها القتل، وخرقوا العقد؛ أرسلت خزاعة رسولاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باعتباره شريك عقد وأخ حلف، فخرج عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ سراعًا، يجوب الحزون ليلاً ونهارًا، حَتّى قَدِمَ المدينة، فوقف على النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يجلس حتى أخبره الخبر، فلخَّص له الأحداث في قصيدة تاريخية شهيرة، قال فيها :
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا … ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا … وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنُ سَالِمٍ !!!، واستبشر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتفائل؛ فعَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ، فَقَالَ : ” إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ ” [ ابن هشام 2/393].
وهنا يعلمنا رسول الله الذي جاء لرفع الظلم عن البشرية وجها حديدا من وجوه رفع الظلم وهو نصر المظلومين إذا تمكنا من مناصرتهم ورفع الضيم عنهم، كيف لا وهو القائل: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”، ولكن كيف ننصره ظالما؟ بأن نكف يده عن الظلم.
فهنا تحرك جيش المسلمين ليرفع يد قريش وبكر عن خزاعة، وليقيم معالم العدل في أرض الله الحرام التي أرسى فيها إبراهيم قواعد البيت الحرام.
2- جبر عثرات الكرام:
وقت الاستعداد للفتح وقع حادث مستغرب. حيث إن رجلا من أهل السابقة فى جهاد المشركين تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه أن محمدا سائر إليهم بجيشه..!! وهو حاطب بن أبي بلتعة، وقد تم مصادرة خطاب حاطب، ورُفع الأمر إلى النبي ليفصل في هذه القضية، فقال: ” يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ .. كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ” [البخاري: (3939)]
وكان حُكم رسول الله العفو ! لأن حاطبًا قد شهد بدرًا ، وأن الله قد تاب على حاطب، فقال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وفي عفوه – صلى الله عليه وسلم – عن حاطب، يدل على أهمية العفو عن أصحاب السبق والفضل في الإسلام إذا ما وقعوا في خطيئة أو ذلت أقدامهم في مصيبة.
إن حاطبا خرج عن جادة الصواب بهذا العمل. وما كان له أن يواد المشركين وهم الذين تبجحوا بالكفران وتظاهروا على العدوان، وصنعوا بالمسلمين ما حاطب أعلم به من غيره، لكن الإنسان الكبير تعرض له فترات يصغر فيها، والله أبر بعباده من أن يؤاخذهم بسورات الضعف التى تعرو نورهم فيخبو، وسعيهم فيكبو. وقد استكشف النبى خبيئة حاطب، فعرف أنه لم يكذبه فى اعتذاره. إنهم مقبلون على معركة كبيرة قد ينهزمون فيها، فتقوم العصبيات القديمة بحماية الأقارب الشاردين، ويبقى حاطب لا حمى له فليتخذ تلك اليد عند قريش، حيطة للمستقبل. ذلك ما فكر فيه حاطب، وهو خطأ، فإن المشركين لم يذكروا فى عداوة الإسلام رحما ولا أهلا، وما ينبغى ـ ولو دارت علينا الدوائر ـ أن نبقى لهم ودا. وقد خاصمناهم فى ذات الله وأخذ علينا العهد أن نبذل فى حربهم أنفسنا وأموالنا.
لكن حاطبا شفع له ماضيه الكريم، فجبرت عثرته، وأمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أن يذكروا الرجل بأفضل ما فيه، وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام ألا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حينا بعد أن أصابوا طويلا.
3- تعظيم الحرمات :
في نشوة الفتح، وشذى النصر الفواح، صاح قائد الأنصار سعد بن عبادة : ” الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ! ” فَقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم – : “كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ “[ صحيح البخاري (3944) ]، وأمر بالراية – راية الأنصار – أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ودفعت إلى ابنه قيس بن سعد.[ ابن كثير: 3/559].
فما جاء الإسلام لينتهك الحرمات والأعراض والدماء كما يتهمه أعداؤه، بل جاء لتعظيم الحرمات {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج (32)، وحرمة دم المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة، لذلك لا يحل دم المسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة.
4- تواضع الفاتحين:
دخل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – مكة، شاخص الطرف، باسط الكف، شاكرًا حامدًا ربه، خفيض الرأس، معتمًا بعمامة سوداء، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل.. ويلهج صوته بالقرآن، قارئَا سورة الفتح .
يتراءى للناس رويدًا رويدًا، كالكوكب المشبوب رونقًا وبهاءً، يَشقُ بجحافله البيداءَ شقًا، شامخَا باذخًا، في جَلْجَلة وصَلْصَلة، يحفه خير أجناد الله، عليهم وَقَار البطولة، ومَخَايل الظفر .. كلهم ، كلهم في انتظار إشارة منه لتتحول مكة إلى حمام دم، ومذبحة يشيبُ لها الأمْرَد، وخسف وهدم، ليدمدموا مكة على رءوس المشركين ، فهم الذين عذّبوا المسلمين أيام عهد مكة، وسجنوهم وحصروهم وأخرجوهم ، ولكن ما حدث عكس ذلك، حيث أصدر العفو العام .
ولو قارنا بين موقف الفاتح الأعظم محمد وبين غيره من القادة الكبار عبر التاريخ فلن نجد وجها للمقارنة، فقد أخرجه قومه وحاربوه ورفعوا السيف في وجهه وألبوا عليه الأحزاب، لكن عاد إليهم خافض الطرف قائلا: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
5- العفو العام عند المقدرة:
وماذا عن العفو العام، الذي أطنب فيه المفكرون عبر حقب التاريخ ؟
بعدما أمنَّ الجميع، في بيوتهم ومساجدهم، وقال: : “كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً” [ الترمذي: 3054]، وقال : ” لا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ” [ مسلم : (3334)].
يقول “واشنجتون ايرفنج”، في كتابه (حياة محمد)، معلقًا على قرار العفو العام: “كانت تصرفات الرسول في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو” [واشنجتون ايرفنج : حياة محمد 72 .].
ويقول : إميل درمنغم : “فقد برهن [محمد ] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء ! ” [انظر: بشرى زخاري ميخائيل : محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50].
إن أخلاقيات العفو العام، هي أخلاقيات تمخضت عن نفوس أُشربت الربانية، وشربت من كأس التربية ثمالتها، وإن أمثال هؤلاء ممن تربوا على التراحم فيما بينهم والتآخي والتغافر، لخليق بهم أن يحملوا راية التمكين في الأرض، فما أعظم هذه النفوس التي ذاقت ويلات التعذيب في رمضاء مكة، حتى إذا أمكنهم الله من رقاب أعداءهم، أَعطوا العفو، وجنَّبوا القود، فمسألة التمكين عند هؤلاء الإسلاميين ليست حكاية تصفية حسابات، وليست حكاية غرس أعواد المشانق لمن شنقوهم، فشنقًا بشنق وتنكيلاً بتنكيل، وليست قضيتهم قضية مطالَبات وتِرات، وثارات ودِيَّات، بل يعتبرون الإيذاء ضريبة التمكين، ووسام على صدور المؤمنين.. فهؤلاء الإسلاميون لا يحملون بين جنباتهم جذوة الثأر، إنما يحملون بميامنهم شعلة القرآن، وبميامنهم الآخرى شعلة السُنة، وبين ذلك يحملون قلبًا خالصًا للرب، صادقًا في الغاية.
6- أنتم مني وأنا منكم:
كأن الناظر ظن أن رسول الله ضن بأهله المكيين، فأصدر عفوه، وأمنَّ عدوه، فقال: ” مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ” [مسلم : (3332)]، فقال بعض الأنصار: أَمَّا الرَّجُلُ – يقصدون النبي – فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ ! فنبَّأه العليمُ الخبير .. فجمع رسول الله الأنصار ، وقال : “قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَلا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ !! ” فبكوا، وأرسلوا عبرات الحب، وزفرات الضن بقائدهم، قائلين : ” وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلا ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ! ” .. وتفَّهمَ القائد هذه المشاعر النبيلة، وكأنه لامس مشاعرهم الصادقة في سيوداء قلوبهم ، فقال : “فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ” [مسلم : (3332)].
7- يوم بِرٍ ووفاء:
جاء علي بن أبي طالب يطلب من رسول الله أن يجمع له شرف الحجابة مع السقاية، وقد كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، وقد طلب النبي منه تسليم المفتاح ليصلي في جوف الكعبة، ثم رده إليه قائلاً : ” هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ ” [ ابن هشام 2/412]، ولم يكن يوم ظلم وعدوان. أو مكر وخُتل، وقد كان في استطاعة الرسول أن يضع مفتاح الكعبة في بني هاشم أو في يد زعيم من زعماء الصحابة . فقد كان إعلاء قيم البر الوفاء أولى من الاستئثار بمفتاح الكعبة، ولم يكن من شيم الفاتحين الإسلاميين سلب الأملاك وكرائم الأموال ونفائس الآثار؛ بل رد الأمانات لأصحابها، وإقامة العدل بين الأمم، فهو دين الرحمة والعدل، لا دين البغي والجور.